فن

فيلم «Anatomy of a Fall»: زواج على طاولة التشريح

فيلم «تشريح سقوط - Anatomy of a Fall» الفائز بجائزة السعفة الذهبية بمهرجان كان الـ76 هو واحد من أكثر اللحظات السينمائية إرباكًا وجمالًا في عام 2023.

future ملصق فيلم «Anatomy of a Fall»

كتب الشاعر الإنجليزي «و. ه. أودن» ذات مرة أن قصص الجريمة والتحقيق ما هي إلا مجاز عن موت السعادة، لا نعرف في حياتنا الواقعية من قتل سعادتنا، لكننا نصر على معرفة ذلك في قصص الجريمة.

كانت مقولة أودن تتردد في رأسي بينما أشاهد فيلم جاستن تريت الأحدث «Anatomy of A fall»، المسعف في مهرجان كان الماضي. بدا لي جانب الجريمة والتحقيق والمحاكمة مجرد ذريعة للسعي وراء شيء ما ضائع وغامض في حياة أبطال حكايتها.

يبدأ فيلم تريت الذي كتبته رفقة زوجها آرثر هراري كفيلم جريمة وغموض تقليدي بجثة الزوج تحت نافذة الشاليه الجبلي الذي يمتلكه، تصير الزوجة المتهم الأول والابن الوحيد فاقد البصر شاهدًا. تبدو تريت مفتونة هنا بتشريح طبيعة العلاقة التي ينتهي أحد طرفيها جثة والثاني قاتلًا محتملًا أكثر من فكرة الجريمة نفسها.

تنتهي افتتاحية فيلمها التي تستمر لأكثر من عشر دقائق قبل نزول التترات بجثة الزوج على طاولة التشريح تحت إضاءة نافذة، ثم تبدأ التترات بصور فوتوغرافية للزوجين في مراحل مختلفة من عمريهما، فوتوغرافيا تعكس حميمية وسعادة مفتقدة من العلاقة كما رأيناها على خط النهاية.

تريت هنا تستقصي أين ذهبت هذه السعادة؟

فكرة الزواج على طاولة التشريح

«لا أظن أنه من الطبيعي أن نعيش كأزواج»، هكذا تعلق تريت في واحد من حواراتها. شاهدت فيلميها السابقين «Sibyl 2019»، و«Victoria 2016»، ووجدتها مشغولة لحد بعيد بفوضى العلاقات العاطفية وتشريحها النفسي.

تضع تريت هنا فكرة الزواج في بؤرة عدستها المستكشفة. تفحصه من مسافة ومن قرب. تشفر فيلمها في مشاهده الأولى. نشاهد ساندرا/ ساندرا هولر، وهي روائية ألمانية، في حوار مع طالبة أكاديمية تجيب عن كيف يغذي واقعها الشخصي خيالها الروائي، خاصة حادثة فقدان الابن لبصره بينما الزوج في العلية يشغل موسيقى بصوت عالٍ دون انقطاع، حين يصبح الحوار متعذرًا تقرر ساندرا تأجيله بدلًا من التواصل مع زوجها بشأن موسيقاه.

نكتشف مع تقدم السرد أن الموسيقى الصاخبة تمثل عدائية ظاهرة من الزوج الذي لم ينجح في نشر أي رواية لسنوات تجاه الزوجة المتحققة. لاحقًا نجد جثته تحت شباك العلية بينما لا تزال الموسيقى تصدح في الأجواء. لم نشاهد كيف مات صامويل. هذا المشهد الافتتاحي يرسم صورة لزواج يفتقد التواصل والحميمية، كما تتحرك في خلفيته أشباح الغيرة العدائية. يبدو من البداية كزواج على جليد هش، أي حركة غير محسوبة تهدد بغرق وشيك، زواج يشرف على نهايته. هل يمكن إخضاع علاقة زواج لتشريح طبي بارد؟

تمزج تريت في سردها جونرة الجريمة والتحقيق بدراما المحاكم مع ما يسمى بأفلام دراسة الشخصية «Character Study Film». الفيلم مهتم بالشخصيات وتفاصيلها أكثر بكثير من تغذية جانب الغموض والتحقيقات، يحاول أن يكشف لنا وللابن الذي يتم السرد من خلال وجهة نظره في أحيان كثيرة عن العلاقة بين والديه عبر إجراءات المحاكمة الباردة والقاسية والعدائية. قاعة المحكمة هنا هي بديل طاولة التشريح بعنفها ورغبتها الملحة للكشف عن حقيقة مختبئة.

سقوط الزوج في البداية أشبه بشق صغير في جسد العلاقة، ومع المحاكمة وضغطها المتصاعد على الزوجة كمشتبه بها يتسع الشق شيئًا فشيئًا لتبرز أحشاء العلاقة. يضفي وجود جثة من البداية ضوءًا أحمر على كل التفاصيل، يجعل كل خلاف أو سوء فهم يتحول لدليل إدانة.

تضع تفاصيل المحاكمة شخصية الزوجة الغامضة وعلاقتها المشوشة بزوجها تحت المجهر، تحت عدسة خيال الابن المضببة حيث تبدأ ظلال الشك في التسلل لعلاقة الابن بوالدته. تتعرى عيوب العلاقة وخطاياها. تخبر الأم بعد إحدى جلسات المحاكمة: «أنا لست وحشًا».

هذا الفيلم هو أيضًا بورتريه لامرأة تستيقظ في كابوسها الخاص، لكنها ترفض بحسم دور الضحية. من لمسات الإخراج المميزة بهذا الشأن تصور تريت هنا بطلتها من زاوية منخفضة على عكس المعتاد في مثل هذه المواقف، حيث تصور من زاوية علوية للتعبير عن ضعف الشخصية وضآلتها أمام ما يحدث لها. ساندرا بغموضها وصلابتها وبرودها الظاهري تمنح خيال الادعاء مشتبهًا به مثاليًّا. في بعض الأحيان تبدو شخصية الأم هي ما يخضع للمحاكمة، حيث نقائصها الشخصية تجعلها قاتلة محتملة.

تؤمن تريت أن كل علاقة لغز، حتى أطرافه يستغلق عليهم فهمه. مثل مشهد بالتصوير البطيء يستغرق سقوط الزواج سنوات من الاستياء والغضب والخيانات. ليس هناك وحش وضحية. بين مذنب وغير مذنب طيف كامل من مشاعر الذنب والتواطؤ والغيرة والخيانات. الحقيقة دائمًا أبعد من التشريح الجسدي والنفسي، لا يمكن للتشريح أن يخبرنا عن المعنى الحقيقي للمعاناة والموت.

 هذا فيلم عن الغموض

أول جملة نسمعها في الفيلم هي: ما الذي تريدين معرفته؟ نسمعها في الفيلم من ساندرا موجهة للطالبة الأكاديمية التي تستجوبها لفهم شخصيتها الأدبية. ما الذي نريد أن نعرفه لفهم شخص ما لنعرفه حقًّا؟

تعتمد تريت هنا على سرد خطي مباشر، ولا تلجأ للفلاش باك إلا في لحظات نادرة لها ثقلها السردي. يعزز أسلوبها السينمائي الذي يصر على وجود ما تبقيه دائمًا خارج الكادر هذه الفكرة. هناك دائمًا شيء يحدث دون أن نراه، بداية من الحدث المحفز والمؤسس لحركة السرد، وهو سقوط جثة الزوج. هذا واضح منذ المشهد الأول، حيث نستمع لحوار بين ساندرا والأكاديمية الشابة قبل أن نراهما بينما تعرض الشاشة شيئًا آخر. هناك دائمًا ما ينفع الصورة، شيء غائب عنا وعن إدراكنا للبشر. بعد المحاكمة هل عرفت ساندرا أو صامويل بشكل كامل وحقيقي؟ يظل عدم اليقين يلف الشخصيات ويبقى العمى الجزئي للابن الشاهد هو مجاز الفيلم.

هذا ليس فيلمًا عن الحقيقة

تخبر ساندرا محاميها منذ أول لقاء معه أنها لم تقتل زوجها، فيجيبها: هذا ليس الموضوع!

هذا تحفة ما بعد حداثية حول عدم إمكانية معرفة الحقيقة المطلقة أو الحقيقة الموضوعية. تصر فلسفة ما بعد الحداثة على كون الحقيقة ذاتية، جزئية وموضع جدل، عوضًا عن كونها مكتملة ويقينية. مثل أغلب السرديات ما بعد الحداثية تشريح السقوط هو دراما سرديات متصارعة: سردية الادعاء عن زوجة أنانية، غاضبة، خائنة وانتقامية، وسردية الدفاع عن زوج غير راضٍ عن حياته بعد سنوات من التعاسة والفشل.

يصر السرد على الغموض، بل يبدو غير مبالٍ تجاه حقيقة ما حدث فعلًا. نحن أيضًا أمام رواة غير موثوق فيهم. يبقى السرد المشاهد في الظلام، يفاجئه بالحقائق والأكاذيب التي تتكشف تباعًا.

يبدو الفيلم أيضًا غير مهتم بإجابات نهائية أو قاطعة.

يسأل الابن حارسته القانونية المعينة من قبل المحكمة لتحمي شهادته من تأثير الأم وهو يبكي: ساعديني! إنه لا يعرف بأي حقيقة يؤمن. يبقى الاقتراب بالقلب هو الحل، عليه أن يخلق ما يؤمن به. نشاهده يقرب صورة والديه - والتي شاهدناها في تترات البداية - من عينيه الكليلتين. نتوحد مع حيرة الطفل، عليك أن تنظر أبعد من الحادث، لقد بحثنا عن كل معنى ومع ذلك لم نفهم تمامًا لماذا جرى ما جرى. هذه حكاية عن الحيرة والتشوش.

هذا فيلم عن اللغة

اللغة هنا في قلب الفيلم. يتوق البشر لفهم بعضهم بعضًا، لفهم الألم والعواطف والاندفاعات، وعبر اللغة يتجسد هذا التوق. تستكشف تريت هنا فكرة التواصل داخل العلاقات وفشلها ما يؤدي إلى السقوط النهائي.

تشيد تريت سرديتها عبر عدد من المجازات، يتحدث الزوج والزوجة بلغة غير لغتهم الأصلية. هي ألمانية وهو فرنسي لكنهما يتحدثان الإنجليزية كلغة وسيطة. هنا مجاز عن عجز أصيل عن التعبير عن أنفسهم على نحو واضح. ساندرا أيضًا مضطرة للدفاع عن نفسها بلغة غير لغتها.

بطلا الحكاية أيضًا روائيان، فاللغة هاجسهما. يستغل الادعاء تصريح ساندرا أن كتاباتها ذات صلة وثيقة بحياتها، تتحول كتبها إلى موضوع للمحاكمة بحثًا عن قرائن تثبت سرديتها. تحولت المحاكمة في لحظة من اللحظات إلى نوع من الجدل الأدبي، حيث كان على فريق الدفاع أن يردد أن الرواية ليست هي الحياة، وأن الكاتب ليس شخصياته.

إذا كان ثمة هوس آخر لدى تريت ينافس الرغبة في تشريح العلاقات العاطفية فهو فكرة الـAutofiction المتواترة في أعمالها الثلاثة الأخيرة. القص الذاتي نوع من السيرة الذاتية الخيالية، حيث يمتزج واقع الكاتب مع دفقات خياله.

ترى تريت أن ثمة مشتركًا بين قاعات المحاكم والسينما؛ صالة السينما وقاعة المحكمة هي أماكن يتجاوز فيها السرد فكرة الحقيقة حسب استقبال الجمهور وتصديقه للرواية.

«تشريح سقوط» هو واحد من أكثر اللحظات السينمائية إرباكًا وجمالًا في عام 2023.

# فن # سينما # أفلام أجنبية # Anatomy of a Fall

فيلم Joker: Folie à Deux: حكاية تقلع بلا أجنحة
فيلم «المخدوعون»: فلسطين في مواجهة الرجال والشمس
فيكتور إيريس: العالم بقدم في الواقع وأخرى في الأحلام

فن